مجدي يعقوب: رائد جراحة القلب ومُلهم الأجيال

يُعدّ السير مجدي يعقوب واحدًا من أعظم جراحي القلب في العالم، واسمًا محفورًا في تاريخ الطب الحديث. لم يكن مجرد طبيب أو جرّاح ماهر، بل إنجازاته تخطّت حدود غرف العمليات لتصبح علامة فارقة في ميادين الطب الإنساني والبحث العلمي والتطوع الخيري. لقد جمع بين البراعة الطبية الفائقة، والرؤية الثاقبة، والتفاني الإنساني، ليُسهم في إنقاذ حياة عشرات الآلاف حول العالم، ويُكرَّم في بلدان عدة تقديرًا لمكانته العلمية والإنسانية.

هذا المقال يستعرض بتفصيل معمّق حياة وإنجازات العالم المصري البريطاني مجدي يعقوب، بدايةً من نشأته، مرورًا بمسيرته العلمية والمهنية، وصولًا إلى إرثه الدائم في مجال الطب وخدمة الإنسانية.

النشأة والبدايات

وُلد مجدي حبيب يعقوب في 16 نوفمبر 1935 بمدينة بلبيس بمحافظة الشرقية في مصر، في أسرة قبطية تتسم بثقافة عالية وانضباط أخلاقي. كان والده طبيبًا، وكان لهذا أثر بالغ في اهتمامه المبكر بالطب، حيث كان يرافق والده في الجولات الطبية. هذا التعرّض المبكر للبيئة الطبية أسهم في بلورة شغفه بالمجال الصحي.

رغم أن اهتمامه الأول كان بجراحة القلب، إلا أن اهتمامه تطور بعد فقدان عمته التي توفيت بسبب مرض في صمامات القلب، وهو ما ولّد لديه التزامًا شخصيًا ووجدانيًا لفهم أمراض القلب والتفوق في علاجها.

التعليم والتكوين الأكاديمي

التحق مجدي يعقوب بكلية الطب بجامعة القاهرة، وتخرج منها في عام 1957، ثم انتقل إلى لندن في أوائل الستينيات لمتابعة دراسته العليا، حيث حصل على زمالة كلية الجراحين الملكية، وبدأ تدريبه المهني المتخصص في جراحة القلب.

سعى يعقوب إلى التعمق في أحدث ما توصّل إليه الطب الغربي، وبفضل قدراته العلمية اللافتة، التحق بمراكز طبية مرموقة في المملكة المتحدة، وبدأ العمل على تطوير مهاراته في جراحة القلب والصدر، خاصة في وقتٍ كانت فيه جراحة القلب لا تزال في مراحلها الأولى من التطور.

مسيرة مهنية متألقة

العمل في مستشفى هارفيلد

في عام 1969، انضم مجدي يعقوب إلى مستشفى هارفيلد (Harefield Hospital) في لندن، وهناك بدأ ببناء ما سيُعرف لاحقًا بأنه أكبر برنامج لزراعة القلب في المملكة المتحدة. استطاع أن يطور من أداء المستشفى لتصبح واحدة من أهم المراكز المتخصصة في أمراض وجراحة القلب على مستوى العالم.

كان هارفيلد يعاني من ضعف في التجهيزات، لكن تحت قيادة يعقوب، تحوّل إلى مركز عالمي لزراعة القلوب، حيث أجرى يعقوب خلال عقد الثمانينات أكثر من 1000 عملية زراعة قلب.

زراعة القلب: إبداع تقني وإنساني

يُعتبر مجدي يعقوب من أوائل من قاموا بزراعة القلب الصناعي في أوروبا، وأجرى واحدة من أقدم عمليات زراعة القلب الناجحة في بريطانيا في عام 1980. ولم يكن الإنجاز تقنيًا فحسب، بل ساهم في تغيير النظرة العامة حول هذا النوع من العمليات التي كانت تُعدّ آنذاك مخاطرة كبيرة.

ولعل من أبرز إنجازاته قيامه في عام 1983 بعملية زراعة قلب لطفلة عمرها 5 أشهر، وهي واحدة من أصغر المرضى الذين خضعوا لمثل هذه العمليات المعقدة في ذلك الوقت.

البحث العلمي والمساهمات الأكاديمية

إلى جانب عمله الجراحي، كان يعقوب باحثًا نشطًا، ساهم في مئات الدراسات العلمية المحكمة. ركّزت أبحاثه على تطوير صمامات القلب الصناعية، وتطوير تقنيات جراحة القلب للأطفال، إضافة إلى تحسين بروتوكولات الرعاية بعد زراعة الأعضاء.

أشرف يعقوب على تدريب جيل كامل من الجراحين والباحثين، ما ساعد في نشر معاييره ومهاراته حول العالم، خصوصًا في الدول النامية. وكان يعقوب من أوائل من دعوا إلى تأسيس مراكز أبحاث تخصصية في العالم العربي وأفريقيا.

مؤسسة مجدي يعقوب لأمراض وأبحاث القلب

تُعد مؤسسة “مجدي يعقوب لأمراض وأبحاث القلب” في أسوان بمصر من أضخم إنجازاته الإنسانية، حيث أسّسها في عام 2009 كمؤسسة غير ربحية تُقدّم الرعاية الطبية المجانية لأمراض القلب، خاصة للأطفال من الأسر الفقيرة.

تتميّز هذه المؤسسة بكونها مركزًا متكاملًا يجمع بين العلاج، والبحث العلمي، والتعليم الطبي، وتضم فريقًا متعدد التخصصات من الأطباء المصريين والدوليين. وقد أجرت المؤسسة آلاف العمليات منذ إنشائها، وكان لها أثر واضح في رفع مستوى الطب في صعيد مصر.

الجدول: مقارنة بين إنجازات يعقوب محليًا وعالميًا

التكريمات والجوائز

حاز يعقوب على عدد هائل من الجوائز والأوسمة العالمية، من أبرزها:

• وسام الاستحقاق البريطاني (Order of Merit) من الملكة إليزابيث الثانية عام 2014، وهو أحد أعلى الأوسمة في بريطانيا.

• لقب “سير” في عام 1991، وهو تكريم يُمنح لأصحاب الإنجازات الفريدة.

• جائزة نوبل البديلة (Right Livelihood Award) عام 1999.

• وسام الجمهورية من الطبقة الأولى من الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك.

• جائزة القلب الذهبي من الجمعية الأوروبية لأمراض القلب.

إرث دائم في الطب والمجتمع

لا يقتصر إرث مجدي يعقوب على العمليات الجراحية فقط، بل يمتد إلى منظومة من المبادئ الطبية والإنسانية. لقد دافع باستمرار عن مجانية الرعاية الصحية للفقراء، ودعا إلى تعزيز الطب الوقائي والبحث العلمي في البلدان النامية، وأكد على ضرورة بناء كوادر محلية قادرة على نقل المعرفة.

كما أن منهجه المتواضع في التعامل مع المرضى جعله قريبًا من الناس، ورفعه إلى مصاف الشخصيات الإنسانية العالمية مثل ألبيرت شفايتزر ومارتن لوثر كينغ، باعتباره قدوة في العمل الإنساني والمجتمعي.

تأثيره على الطب العربي والعالمي

إن مجدي يعقوب يمثل حالة فريدة في الطب العربي، إذ برهن أن العقل العربي قادر على الإبداع والقيادة في أصعب التخصصات الطبية. وقد ساعدت نجاحاته في تسليط الضوء على ضرورة دعم البحث العلمي في العالم العربي، وتحفيز الشباب على دخول مجالات الطب والعلوم.

لقد سعى جاهدًا لإعادة تدوير النجاح الذي حققه في الغرب إلى الوطن العربي، سواء عبر مركز أسوان أو عبر زياراته المنتظمة لمصر، أو من خلال مشاركاته في المؤتمرات الطبية العربية.

الحضور الإعلامي والثقافي

رغم انشغاله المهني والعلمي، لم يغفل يعقوب أهمية التأثير الثقافي، فشارك في العديد من اللقاءات والحوارات الإعلامية التي سلطت الضوء على الطب من زاوية إنسانية. كما ألهمت قصته أفلامًا وثائقية وكتبًا تناولت حياته وإنجازاته.

ولم يكن يعقوب ممن يسعون إلى النجومية، بل كان يفضّل البقاء خلف الكواليس، مكتفيًا بتأثيره الواقعي على الأرض. وهذا ما جعله أكثر قربًا للناس وأكثر تأثيرًا في وجدان المجتمع المصري والعربي.

الخاتمة: قيمة إنسانية وعلمية عابرة للحدود

إن تجربة مجدي يعقوب تمثل تجسيدًا حيًا لمعنى الطب في أرقى صوره: علم، مهارة، التزام، وإنسانية. لقد نجح في أن يجمع بين الدقة العلمية والدفء الإنساني، بين الصرامة الطبية والرحمة الاجتماعية. هو ليس فقط طبيب قلوب من الناحية الجراحية، بل هو كذلك من ناحية رمزية: طبيب قلوب بشرية، أزال عنها الألم، ومنحها الأمل والحياة.

من خلال آلاف العمليات، ومئات الأبحاث، ومؤسسة إنسانية عملاقة، ومكانة دولية نادرة، بات مجدي يعقوب أيقونة في تاريخ الطب الحديث، واسمه سيبقى خالدًا كأحد أعظم من خدموا الإنسانية في القرن العشرين والحادي والعشرين.

المراجع:

1. The British Heart Foundation. “Sir Magdi Yacoub: Heart Surgery Pioneer.”

2. مؤسسة مجدي يعقوب للقلب – الموقع الرسمي: https://myf-egypt.org